حين تكون السيادة قدر الإنسان، والإنجاز هدفه؛ يلقي عليه التميز ظلاله وهو في
المهد صبيا، فتُرى عليه أماراته، وتُقرأ فيه سماته، وحين يصاحب تلك السيادةَ وذلك
الإنجاز هدوءٌ لا صخب فيه ولاضجيج، فاعلم
أنه قرار نبع من الداخل تزجيه الحِسبة وتصوغه القناعة،
في هذا السياق نتناول وإياكم شخصية من
شخصيات هذا الوطن، ورمزا من رموزه، إنه سياسي الدولة ورجل القبيلة السيد باب ولد
اجدود.
ولد باب ولد اجدود ١٩٢٠م
في شگار وعاش الطفولة هناك، حيث الهواء النقي، والروض الندي، قرأ أول ما
قرأ على أبويه، ومنهم تعلم مبادئ العلم، وأصول الكرم، وجوامع المروءة، ثم باشر
الحياة بنفسه تطوافا في البلاد، ومعرفة بأخبار الخلق وأحواله.
كان رحمه الله من الموطئين أكنافا
الذين يأْلَفُون ويؤلفون، برزت معه تلك السمة منذ نعومة أظافره، ورافقته لآخر نفس،
غادر شگار ذات مرة وهو لم يجاوز سن البلوغ
متوجها إلى تگانت، في رحلة استطلاعية دامت فترة من الزمن، تعرف خلالها على
زعماء تلك المنطقة وشيوخها، فأحبه الناس هناك وأجلوه، وصار لا يُرد له طلب، ولا
يُقضى من دونه أمر.
مرتْ حقبةٌ من الزمن فرجع باب إلى
شگار، ولم يلبث كثيرا حتى أزمع السفر إلى أطار، وكانت محظرة أهل البشير الغلاويين
وجهته هذه المرة، فبها أقام ودرَس، و كان طيلة فترة دراسته يمد جسور الألفة
والتواصل مع القمة والقاعدة، حتى جمعته خاصية الألفة،
وميزة الجاذبية بكثييرن..؛ من
بينهم القائد الفرنسي قائد المستعمر في أطار، حيث قويت
علاقته به وبمعظم قادة المستعمر هناك، وكان من فطنته وذكائه أن تعلَّمَ اللغة
الفرنسية بمجرد السماع، فكان يتكلمها من غير كتابة ولا قراءة.
ولما أراد القائد الفرنسي الذهاب إلى
اندر طلب من بَابَ ولد اجدودْ أن يرافقه إلى تلك المدينة عاصمة القطر وشريان
الحياة،
وافق بابَ على الطلب و وصل المدينة
رفقة القائد الفرنسي، فكانت بداية مرحلة جديدة من مراحل حياته،
فقد فتحت له علاقاته السابقة واللاحقة
آفاقا واسعة، ومكنته من لعب دور السياسي
البارز، والوجيه التاجر، ورجل الأعمال الذي يُرْفِدُ المحتاج، ويؤي النازح، ويقصده ذوالحاج بحاجته فلا يدخر جهدا ولا يضن
بجاه،
ولم تك علاقة باب ولد اجدود بالمستعمر
علاقةً تعميه عن حمل هم وطنه والتضحية في سبيله، والمساهمة في دعم أصحاب الكفاءة وبناة المستقبل، فكانت
عطاياه منحا تهطل على المغتربين للدراسة من أبناء الوطن؛ أمثال أبي الدولة الموريتانية:
المختار ولد داداه، وغيره من رموز تلك المرحلة، وقد سطر المختار ولد داداه ذلك بمداد الشكر والوفاء في
مذكراته، فكتب من جملة ما كتب عن باب ولد اجدود :
[وشكلت
الحوالات التي يبعث بها باب ولد اجدود مصدر دخلي الوحيد الثابت وإذا كانت لا تسلك
في طريقها إلي أقصر السبل، فقد سلمت لحسن الحظ من الضياع وكانت تصل إلي في نهاية
المطاف..] (ص١٢٨)
لم يكتف باب بالدعم المباشر، بل أقحم
نفسه في قلب المعركة وسوح النضال السياسي، حين تَزَيَّلَ الفريقان فريق ثار على
االمستعمر وأراد أن يحكم نفسه بنفسه، وفريق آثر المستعمر وما عنده من حظية وجاه،
وقد نال باب ولد اجدود في ذلك مانال من الإقصاء والمضايقة، على يد زعماء القبائل
والشيوخ التقليديين، الذين تحزبوا ضده بقضِّهم وقضيضهم،
حين تخندق مع صديقه ورفيق دربه: أحمدو
ولد حرمة العلوي الذي أسس معه حزبه، ودعمه في ترشحه، وكان ممثل حزبه حتى آخر انتخاب أجري في عهد المستعمر،
كتب العلامة القاضي محمد ولد محمذن فال
رحمه الله تعالى ما نصه: ..أما بعد فقد بدالي يوما _لما تذكرت رجلين من أنصار الحق
ومؤيديه هما السيدان أحمد بن حرمة العلوي وباب بن اجدود الأدهسي _ أن أرثيهما في
رمضان ١٤٢٦
فقد كنت عام ١٩٥٥م في معهد بتلميت وأمي
معي، وأبي في ناحية شگار، فبلغني أن سيارة تستعد للذهاب إلى شگار لآخر انتخاب أجري
في عهد الاستعمار الفرنسي للنواب (دبيتات) فاستأذنت مدير المعهد الشيخ عبد الله بن
الشيخ سيديا للذهاب في تلك السيارة فوافق
رحمه الله تعالى
فإذا في السيارة خمسة رجال هم موسى بن
باب بن الشيخ سيديا ممثلا لحزب السيد سيد المختار بن يحيى انچاي، والسيد باب ولد
اجدود ممثلا لحزب السيد أحمد بن حرمة، والسيد يعقوب بن أبي مدين ممثلا لحزب محمد
بن الشيخ جدو، والسيد محمد سالم بن محمد المصطفى مرافقا لموسى، وفرنسي ممثلا
للدولة الفرنسية،
وفي أثناء الطريق بين بتلميت وشگار
سمعتهم يتحدثون عن موضوع الانتخاب وما كان عندي عنه خبر ولم أشارك قبل ذلك في أي
سياسة، فجاء في نفسي أن أؤيد ابن اعمي باب ابن اجدود وكانت بينه وبين أبوي صداقة
ومحبة فكان ما كان مما أشرت إليه في قصيدة الرثاء التالية:
عن الناس في استعمارهم رفع الظلما
زعيم يسمى أحمد ابن الفتى حرما
فكم طاح من عشر بخمس ودورة
ونيلت حقوق قد أكلن بها لما
وقد شعرت بذا فرنسا فأصبحت
بطانتها تسقي معارضها السما
فأصبح من قد أيدوه بسمهم
يتوبون من تأييده طمعا جما
ولكن ( باب ) العز نجل (جدوده)
أبى توبة إلا من الخزي..ما همَّا
فكم صدمت تلك البطانة (بابَها)
فما حطمت عزما لديه ولا حزما
ولم يبرح الا صامدا ضد صادم
يحطم الاستعمار طاقته حطما"
وصدق القاضي فيماقال فقد صُدِم باب ولد
اجدود بشتى أنواع الظلم والتهميش؛ بغية ثنيه عن قراره السياسي؛ لكنه ظل صامدا ضد
صادم يحطِّم الاستعمارَ طاقتَه حطْما،
في الجانب الاجتماعي كان باب ولد اجدود
مهابا في قومه، يحطى بثقة بني عمه، وكانوا يرونه فتى الكهول والقائد الشاب
المتعقلم مع الواقع الجديد الفاهم لآلياته ومتطلباته،
لذلك جاءت دعوة من القائمين على الشأن
العام لمجموعة إدادهس بتعيين باب ولد اجدود شِيخا يمثل مجموعته، ويتولى إدارة دفة الشؤون العامة،
وبالفعل تم تعيين باب ولد اجدود شيخا لمجموعة إدادهس بتشاور وارتضاء من جميع أطياف
المجموعة، كان ذلك عام ١٩٥٠م وعمر باب حينها لم يتجاوز الثلاثين.
كان تعيين الشاب _المعارض الخارج عن
هيمنة المشيخة المتحدي لسطوة الزعماء _في منصب كهذا أمرا لا يريح البال بالنسبة
لسدنة السياسة في مدينة بتلميت؛ لذلك حاولوا إقصاءه من المشهد القبلي حين لم
يستطيعوا إقصاءه من المشهد السياسي، وصحيح أن تولي باب ولد اجدود لذلك المنصب
القبلي لم يطل كثيرا ؛ لكنْ صحيح أيضا أن سياسة الاستعمار لم تطل هي الأخرى، بل
انحلت عُقَدُها على يدي غيورين من أبناء الوطن من بينهم باب ولد اجدود نفسه،
لم يك باب ولد اجدود ذلك السياسي
المُنبَتّ الذي لا يأوي إلى ركن، ولا يدين بدين، بل كان على جانب كبير من
الاستقامة والتدين والصدق مع الله، عرف بكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة
بعد الصلاة، كما عرف بكثرة الإنفاق مقتحما العقبة: [فك رقبة إو إطعام في يوم ذي
مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر
وتواصوا بالمرحمة]
وفي يوم
الجمعة من عام ١٩٩٧م أسلم باب ولد اجدود
الروح لباريها ودفن بمقبرة البعلاتية سحت علي قبره شئابيب الرحمة ونسائم
الرضوان.بقلم الشاعر: أحمد ولد الداه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق