مشاركة مميزة

ورقة مختصرة عن القرية

الاثنين، 25 أبريل 2016

سيدي محمد ولد محمد حبيب الله (حبلي)

بقلم الشيخ : محمد محمود حبلي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد فقد نُشِرَتْ قبل فترة وجيزة ترجمةٌ للوالد الهمام والسيف والعلم الضرغام المقدام: سيدي محمد ولد محمد حبيب الله (حبلي) رحمه الله تعالى وبما أنها ترجمة خلت من المعلومات الضرورية لكل من يترجم له عادة فلم تحتو على تاريخ الميلاد ولا الوفاة ولا تاريخه العلمي والسياسي ولا شمائله وأخلاقه ..... مع أنه كان من المفترض أن تؤخذ معلومات كل شخص عن أهله وذويه، ولم يتم الرجوع إلينا فيما نشر من قبلُ أو ما زال قيد النشر...

ونشكر للأخ الذي ترجم له سحبه لها بعد أن تبين له الخطأ فيما نشر والاعتراف بالخطأ فضيلة وكلنا خطاء وخير الخطائين التوابون.
لذا فقد قررت إتحاف جماهير القراء بتقديم بعض ما لا ينبغي جهله عن مثل هذا العلم؛ لأن "جهل الأعيان مجرحة،" كما في المثل، وليس من باب الرد على أحد وإنما من باب الأمانة العلمية وتوضيح الحقائق، وهذا واجب الأولاد تجاه الآباء انطلاقا من قوله تعالى: "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير" أَيْ: فَإِنِّي سَأَجْزِيكَ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ كما قال ابن كثير رحمه الله، وهاهي ترجمته بين أيديكم لمن يرغب.
فهو: سيدي محمد ولد محمد حبيب الله الملقب حبلي ولد محمود للَّ ولد عبدو ولد محمد لحبيب الملقب افَّلَّجْ ولد أحمد لولي ولد عيسى ولد أدهس ... إلى آخر النسب المشهور، والجميع ولله الحمد ما بين حافظ لكتاب الله أوآخذ بالسند المتصل (الإجازة).
ولد عام 1929 م وتوفي ولما يبلغ الأربعين ربيعا أي أن وفاته كانت 1968 م مع كثرة عطائه وصغر سنه. فكان موته مصابا جللا لقبيلة إدادهس حيث كان من أعيانها ورجالاتها الذين عليهم مدار أمورها السياسية والاجتماعية.
كان رحمه الله حافظا لكتاب الله مدرسا له متصفا بمقتضى الحديث النبوي الشريف: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" في زمن عز فيه التفرغ لتحصيل الإجازة؛ لقلة الموارد المالية وانشغال الناس بالرعي والزراعة والتجارة، وتربى بين مدرستي أبيه (حبلي) وخاله القاضي والمفتي أحمد سالم ولد أحمد الخليل القاري (نسبة إلى إدقرهاو) حيث حفظ القرآن الكريم وعمره سبع سنين، ودرس النحو والفقه والسيرة في المحظرتين، ثم انتقل إلى العالم الصالح محمد ولد بديدي الأبييري الذي أعطاه السند ومن خلال صحبته تأثر به خلقا واستقامة رغم أنه لم يثبت لنا أخذه للطريقة التيجانية عنه، على أن التيجانية في ذلك الزمان وعند ذلك الشيخ لم تكن سوى أوراد وأذكار وورع عن الشبهات والشهوات عكس ما هو شائع في بعضها اليوم.
وهناك نماذج تدل على قوة عقيدته ويقينه بالله: من ذلك أنه كان مع جماعة تحاول حل معضلة وبعد تمكنه من ذلك قالت إحدى النساء ما كنت لتحلها لولا أني ناديت للشيخ الفلاني فقال: كلا، لم ينفعني فيها سوى الله وحده حيث لا يملك أحد غيره النفع ولا الضر. ومن ورعه ما ذكرت لي بعض القريبات ممن عاصرته أنه لم يكن ينظر إليها رغم أنها محرم له وأن هذه عادته مع كل النساء.
وتربية الوالد له تدل على صدق الشاعر القاضي محمد ولد محمذٍ فال في قصيدته التي بدايتها:
لعيسى في الفرات غدت وجوه == بها غرر تسود بها بنوه
وأحمدُ لوليٌّ بها إمامٌ == ولايته بها اعترف الوجيه
محمدُ فاضلٍ إذ صار صهرا == بمريمه له منها الوجوه
وجوه الناس في اللأوى فكانوا == لأدهسَ يكرمون بما ولوه
فكانوا دوحة للمجد يأوي == إليها رائدوه ليرتدوه
وسيدي محمدٍ قد كان منها == فورثه مكارمَها أبوه
عليه رحمة الرحمن تسقي == جدودا للعلى قد أهلوه
...الخ القصيدة الرائعة
نسأل الله أن يرحم القائل والمعني رحمة واسعة.
وكان له الفضل في نشر القرآن الكريم وعلومه في مختلف قبائل موريتانيا مثل انتابه وتندغه وأولاد آكشار، فضلا عن قبيلته إدادهس.
ثم انتقل بعد هذه المرحلة إلى مرحلة الكسب وتأسيس الأسرة
انطلاقا من قول الشاعر:
فما همة الإنسان بعد بلوغه == سوى العلم والأموال والخرد الفضل
...الخ
وكان في كسبه وعبادته كما قال الذهبي عن عبد الله بن الزبير:
"إذا رأيته في الصلاة وفي العبادة قلت هذا رجل لا يريد الدنيا طرفة عين، وإذا رأيته في التجارة قلت هذا رجل لا يريد الآخرة طرفة عين".
حيث كان رجل الدنيا والآخرة راهبا بالليل فارسا بالنهار حسن التدبير منفقا مضيافا لا يخلو بيته من زوار مما بوأه السيادة في القبيلة فكان من جماعة الحَل والعقد لقبيلة أولاد أبييري. كما قال جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرًا == كما أتى ربَّه موسى على قدر
فكان مسموع الكلمة عند عبدُ الله ولد الشيخ سيديا الخليفة العام في ذلك الزمان مهابا محترم الجناب، إذ حظي بعض أعيان القبيلة من الوالد رحمه الله بالذب عن عرضه، وحظي البعض الآخر بالتقديم في مجلسه
حيث يجد المعارضة من أقرب الناس إليه.
كما قال الشيخ سيديا الكبير رحمه الله:
لِيَسْحَبْ على عَيْبِ الخليل ذُيُولهُ == ويَسْتُرْ فَشأنُ الخِلّ سَتْرُ المعايب
خِليلِي لا أبدي إلى من يَذُمُّهُ == طلاقَةَ وجْهي بلْ عُبوسَةَ حاجِبي
أحِبُّ الذي يَهوى وأُبغضُ ما قلا == ولستُ عليه إنْ يزِلَّ بعاتب.
وكما قال الشيخ سبدي محمد:
وأي شيء على الاحرار أشنع من == تسبب في معاداة الأوداء.
شأنه في ذلك شأن من يرى السيادة في تقديم اﻷقارب عكس من يرى أن السيادة في إقصائهم.
وكانت له فراسة عجيبة في مستقبل شباب القبيلة من ذلك أنه التفت يوما على محمد سالم بن أبي بكر حفظه الله وأطال عمره فقال له سيكون لك شأن ونفع للقبيلة وقد صدقت تلك الفراسة
ومن الأمثلة على ذلك أن المجموعة لما أرادت الترخيص لحفر أحد آبارها التاريخية لها فكانت هناك عراقيل من طرف الخليفة العام عبدُالله نتيجة لخلافه مع أحد الأعيان فتم إرسال وفد كبير "صُرْبة" للصلح بين عبدُالله وذلك الوجيه فعندما أظهر لهم عبدُ الله غضبه وعدم مبالاته بهم قام الوالد سيدي محمد فقال له: نحن جئنا غضبا لك وعندما أظهرتَ الغضب لنا غضِبنا لابن عمنا، فقال: من المتكلم ؟ فقيل له: هذا سيدي محمد ولد افلج، فقال ما معناه هذا حري بالاعتبار والاهتمام: "هذا اص عاد ينكعد لُ" فأعطاهم فورا الترخيص للبئركما روى ذلك عبد الودود ولد أحمد أطال الله بقاءه. ويدخل هذا ضمن اهتمام الوالد بحفر آبار القبيلة والاهتمام بشؤونها؛ حيث روى الثقات أن أول ثور استخدم سانية لحفر البئر له رحمه الله.
كان رحمه الله قويا في غير عنف لينا من غير ضعف، كما قال الشاعر الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيدي:
يا عاذِلينَ أقُّلوا اللّوْمَ وَيْحكُمُ == إني لِمَنْ رامَ قَوْدي غيرُ مُنْقاد
ولا يُلينُ قناتي غمزُ غامزِها == ولا يقيمُ ثقافُ العذلِ مُنآدي
وكان سيدا مقبولا عند أولاد عيسى عامة ومجموعتي أهل أحمد لولي، وأهل محم بن خاجيل خاصة وذلك بحنكته السياسية وخبرته الاجتماعية فكلتا المجموعتين قدمته على غيره في جمع العشر،
وجمع العشر كان خاصا بالسيد في ذلك الزمان ويسمى "السيف"، وكان ذلك استمرارا لدور من سبقه مثل عمه الشيخ ولد افلج، ومن قبلِه أحمد فال ولد اندي، وقد خلفهم في ذلك محمد ولد اندي فكان خير خلف لخير سلف.
وجاءت بعد ذلك ظروف أملتها الضرورة كثير من الشباب اليوم لا يعرفون سببها أو عرفوه من وجهة نظر واحدة، وأصحاب تلك الحقبة لا زالوا كما قال الشاعر:
مِنْ معشرٍ سنَّتْ لهمْ آباؤهُمْ == ولكلِّ قومٍ سُنَّةٌ وإمامُهَا
ولا أنسى رحلتي مع المصطف ولد المفيد (القاري) من منطقة "أمشتيل" (تاديشه) حتى 60 كمتر غرب جنوب نواكشوط مدة شهر ولا مررنا علي حي وحصل التعارف معه إلا وعندهم علم بالوالد وشمائله.
وقبل نهاية المقال لا بأس بالتذكير –بشكل مختصر- ببعض مواقفه الشريفة رحمه الله حرصا منه على سمعة القبيلة ونشر هيبتها:
من ذلك أنه لما اعتدت بعض القبائل المجاورة على سيد من سادات القبيلة وهو البطل الشجاع عثمان ولد محمد أحمد قام هو والبخاري ولد ختاري مع عثمان المذكور رحمهم الله وردوا اعتداءها حتى نكصت على أعقابها.
ومنها أنه لما امتنع الشهم الأبي سيدي محمد ولد أحمد طالب رحمه الله عن دفع العشر للحاكم في لبراكنة أصدر الحاكم الأوامر لعساكره باعتقال سيدي محمد وأخذ العشر منه عنوة فقام الوالد رحمه الله ووقف مواقف الرجال وقال والله لا تصلوا إليه وفينا عين تطرف ، فاجتمعت عليه القبيلة عن بكرة أبيها مؤيدة له فأدرك قائد العسكر أن الأمر قد يتطور إلى مواجهة قبيلة بأكملها فهمس في أذن الحاكم مشيرا إليه بسحب القرار فاستجاب الحاكم لذلك وسحب قراره.
ومنها أن القبيلة لما أرادت استقبال الحاكم ولد بـرو السمسدي وكادت فعاليات الاجتماع تبدأ قبل أن يأتي أحد من أسرة أهل فال الكريمة فقام الوالد رحمه الله وقال ما زلنا ننتظر أسرة أهل فال (خيمتنا لكبيره) ولا يمكن أن تبدأ فعاليات الاجتماع دونها حتى جاء الحافظ الهمام: سيدي ولد فال وبدأ الاجتماع.
ومن مواقفه ما أخبرني به الصديق والخال الصالح عبد الودود ولد بيداه أنه (أي عبد الودود) كان في اجتماع لقبيلة أولاد أبييري في بوتلميت فالتفت إليه أحد مشاهيرها وسأله عن أسرة الوالد فقال له بخير لله الحمد فرد الرجل: لا أنسى موقف سيدي محمد يوم كنا في اجتماع شبابي علمي لقبيلة أولاد أبييري وقام أحد الفتيان المشهورين بالمعرفة والاطلاع وطرح سؤالا يريد من ورائه تعجيز أبناء عمه ثم أجاب عنه مفتخرا لكن كانت الاجابة خاطئة، فصحح الوالد له الخطأ وبين الصواب ثم قال له: من كان مفتخرا فلا يفتخر على أبناء عمه
وهذا يذكرنا بقول الشاعر ويدخل في تهذيب النفس:
إذا امتلأت نفس اللئيم من الغنى == ترافع كالمرحاض فاض فأنتنا
وإن كريم الأصل كالغصن كلما == تزايد من خير تواضع وانحنى
ولا يعني هذا أن الفتى الذي طرح السؤال ليس كريم الأصل وإنما المقصود الطبع ووجه الاستدلال لذلك كما قال الشاعر:
ليس اليتيم الذي قد مات والده == إن التيم يتيم العلم والأدب
والموقف الأخير –وقيمته معنوية فقط حيث جرى في مقام التحدي- وهو أنه عندما كان في مجموعة رحلة تجارية "رفكة" فحلوا ضيوفا على بعض القبائل المجاورة فمنعوهم القِرى –على سبيل المزاح- إلا أن يصرع أحدٌ منهم مصارعَ تلك القبيلة المشهور فتصدى له وصرعه وقامت إماء تلك القبيلة بالزغاريد.
والمصارعة لا تضر بالسيادة لاسيما في المقام الدعوي والذب عن العرض فقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ابن ركانة وكانت سبب دخوله الإسلام كما روى الخطيب البغدادي
كما روى ذلك صديقه الحميم محمد المختار ولد مختيري (خَطْ) رحم الله الجميع رحمة واسعة
توفي رحمه الله شهيدا كما نحسبه حيث توفي بلدغة حية وهو يستمع القرآن للدكتور سيدي محمد ولد ختاري (إعرظو) وكما تعلمون فاللديغ شهيد كما روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ... وَاللديغُ شَهِيدٌ، ..."
وأهيب بكل من يريد أن يكتب مستقبلا في تاريخ إدادهس أو يترجم لأعيانهم أن يرجع إلى ذوي كل علم حتى لا يعرض نفسه لمقتضى المثل الحساني: "الما هاب اركوبك لا اتهاب التنكاس بيه".
هذا وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

بقلم الشيخ : محمد محمود حبلي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق