في
بيئة موغلة في التصَحُّر يتبع قاطنوها المزن حيث أمطر، و الضرع حيث در، مكثرين من
الترحال بحثا عن الماء والكلإ كأن ابن
زريق قصد رائدهم بقوله :
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ...رَأيُ
إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ...مُوَكَّلٍ
بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
لا
يقر لهم قرار إلا حين تمتلئ الوهاد...
وتصبح الروض والقيعان مترعة، ما بين مرتق منها ومنصاحِ، وفي
مجتمع لا يعتبر الإنسان بدون التعلم إلا غرابا دائب التَّنْعاب منذرا بالشؤم
والبين، مصداقا لقول الشاعر :
كل فتى شب بلا إعراب ... فذاك عندي مثل
الغراب
وإن رأيته لخود عاشقا ... فقل لها اتق الغراب الناعقا.
في
بيئة كتلك، وفي مجتمع كهذا نشأ وترعرع ذلك العلم الذي سنتناول طرفا من أخباره في
هذه السطور..
إنه
العالم العلامة : محمد محمود الملقب امُّودْ ولد بَبَكرْ ولد حامِدتُّ الأدهسي
الأبييري لأبيه بَبَكَّرْ ولد حامدتُّ ولأمه عِزَّةُّ بنت محمذنْ ولد بُتَّارْ.
بدأ
محمد محمود مشواره الدراسي بما يبدأ به لِداته من أبناء الحي وهو القرآن الكريم
الذي فشا حفظه وإتقانه في عشيرته، فكان أبوه ببكر من أهل القرآن، فعلى يديه حفظ
القرآن، وعلى يديه تعلم مبادئ العلوم، فقد ورد أنه كان يوقظه آخر الليل فيكتب لوحه
ثم يصبحون على رعاية مواشيهم ويذهب معه بلوحه يكرره كلما سنحت له فرصة حتى حفظ
القرآن على هذه الطريقة وكانوا في سنين قحط شديد،
ولما
تعلم ما يؤهله لخوض سباق المعرفة في مضمار المحظرة شد الرحال إلى محظرة الكحلاء
حيث العلامة حبيب الله بن القاضي الإديجبي المتوفى1241هجريا وأقام هناك حيث
استمالته "الكحلاء" و"الصفراء" كما استمالت ابن المبارك
القناني الذي يقول:
أبى
لي أن أسمو إلى الخرد الدهرا... وأن آلف النوم الخيال من الصفرا
تنسكت
عن ذكر الخرائد برهة ... وآلت لي الصفرا فطعت لها الأمرا
بها
فتية آووا طريقة مالك ... كما مالك آوى طريق أبي الزهرا..
ألقى
محمد محمود عصا التسيار هناك ولم يزل ينتجع رياض المعرفة تلك؛ حتى أتقن العلوم
التي تدرس هناك، فيمم وجهه شطر ربوع الأهل وأبناء العمومة، ولما وصل المحلة وقفت
أمه عزة بنت محمذن على أبناء عمها وهم في المسجد مجتمعون لإحدى الصلوات وقالت لهم
: إن ابني قد جاء من غربته لطلب العلم فما ذا ستساعدونه به؟ فقال لها أحد القوم :
إن لدي من الإبل مطايا فليختر منها ما يريد ليجلب عليها الملح ويبيعه وأنا لا أريد
من ذلك عوضا ولا ربحا، فقالت له : إن ابني
لن يمس بيده غير كتبه.
وكانت
لا تريد لابنها أن يشتغل بغير ما أفنى شبابه في تطلابه، وقد حقق الله لها ما تريد
فذهبت مع ابنها إلى أرض الساحل وأسس محظرة كبيرة وبنى خيمتين خيمة للنساء تدرسهن
أمه، وخيمة للرجال يدرسهم هو، فازدهرت محظرته ووفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب
وفتح الله عليه حتى أتته الدنيا وهي راغمة، فكثرت ماشية الإبل عنده حتى صار يعطي
في ضوال إبله جذعة، وتفرغ للتعليم وكان حسن الخط كثير النقل للكتب والمصاحف، ومن
الكتب التي نقلها:
تفسير
ابن جزي المسمى التسهيل لعلوم التنزيل، وبعض شروح مختصر خليل، وشرح قرة الأبصار وروضة النسرين في الصلاة على
سيد المرسلين لسيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم، وبعض فتاوى علماء هذه البلاد..،
وقد
كان محمد محمود بارا بأمه برورا سارت به الركبان.. ويحكى أنه زار الشيخ سيدي
الكبير بعد وفاة أمه وقال له : ادع الله للوالدة فقال له الشيخ سيديا : أسأل الله
ببرورك لها أن يعطيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأضاف الشيخ سيديا :
"انت فم؟ تنبيها على عظم هذا الدعاء الذي
توسل فيه بالبرور.
خلف
محمود وراءه أبناء صالحين ساروا على منهجه، ونسجوا على منواله، منهم العالم الماهر
بكتاب الله :محمد سالم الملقب بَدَّ الذي جال في المحاظر فدرس على أهل محمد سالم
المجلسيين وبعدهم مر بابن بفر الجكني
وبعده مر بـ: محمد عالي بن سعيد الألفغي ثم بأهل العاقل محمد فال بن محمذ ثم صحب
الشيخ سيديا باب، إلى أن توفي وكان من خاصيته ويأتم به في الصلاة، توفي بَدَّ
حوالي 1939م.
ومنهم
أيضا: محمد عبد الرحمن القاضي حفظ القرآن عن ظهر قلب من دون أن يكتبه لكثرة سماعه
له من محظرة أبيه، وكان مشهورا بالكرم والإيثار وله حكايات نادرة في ذلك.
وعتيق
الله وكان أيضا حافظا للقرآن حسن الهيئة وكان من حاملي رسائل الشيخ سيدي باب زمن
المخاوف وهو حامل رسالته إلى أهل آدرار.
ومريم
عيشان وكانت امرأة تقية حافظة متقنة عابدة سخية حفظت الكثير من أبناء المسلمين وقد
طال عمرها وحسنت خاتمتها.
وقد
تمنت ثلاث أمنيات : أن تحفظ مائة من أبناء المسلمين، وأن تحج وتجاور، وأن تدفن في
البقيع. وحقق الله لها ذلك.
أما
العلامة محمد محمود، فقد قال عنه هارون ولد الشيخ سيديا في كتابه "الأخبار"
في ترجمة وافية: "امّود رجل الدنيا والدين".
وتوفي محمد محمود "امود" في بداية القرن الرابع عشر الهجري بمنطقة أكان ودفن بموضع يقال له كَدْوَاشَ.
وتوفي محمد محمود "امود" في بداية القرن الرابع عشر الهجري بمنطقة أكان ودفن بموضع يقال له كَدْوَاشَ.
بقلم: أحمد الداه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق